تفسير سورة الطارق
بسم الله الرحمن الرحيم: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا
هذه سورة الطارق، أقسم الله -جل وعلا- فيها ببعض مخلوقاته، فقال -جل وعلا-: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ والطارق أصله ما يَطْرُقُ الإنسانَ ليلا، فإذا جاء إنسان إلى أهله أو إلى آخر في الليل فإنه يُسَمَّى طارقا، والله -جل وعلا- يبين المراد بالطارق بقوله -جل وعلا-: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ .
فالمراد بالطارق: هو النجم الثاقب، والمراد بالثاقب: النجم المضيء الذي يثقب بضوئه، فأقسم الله -جل وعلا- بالنجم الثاقب، وعَظَّم شأنه بقوله -جل وعلا-: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ .
ثم ذكر الله -جل وعلا- ما أقسم عليه، فقال -جل وعلا-: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ أي: أنه -جل وعلا- جعل على كل نفس حافظا يرقب حركات العبد وسكناته، وأقواله وأفعاله، كما قال الله -جل وعلا-: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ وقد تقدم بيان ذلك.
وقد أقسم الله -جل وعلا- على ذلك بأنه قد يتوهم بعض العباد -إذا لم يَرَ الملائكة الذين يحفظونه- أن هذا شيء كذب لا حقيقة له؛ فلذا أكده الله بأن أقسم الله -جل وعلا- عليه.
ثم قال -جل وعلا-: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ هذا فيه أمر من الله -جل وعلا- لعباده بأن ينظروا إلى ما خُلِقُوا منه؛ لأن النظر إلى مثل هذه الأشياء يورث العبد إيمانا بربه، وزيادة لإيمانه مع إيمانه.
ثم بين -جل وعلا- ما خُلِقَ الإنسان منه، قال تعالى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ أي: خلق هذا العبد من الماء الدافق الذي يصبُّ من الرجل ويخرج من ذكره، وقبل خروجه من الذكر يكون خارجا من صلبه في ظهره، وهذا فيه آية من آيات الله -جل وعلا-، ثم بعد ذلك يضعه في المرأة، فينزل ماؤها الذي يخرج من ترائبها، والترائب: هو الموضع الذي توضع عليه القلادة غالبا، ينزل من ذلك ماء، فيستقر في الرحم، فيجتمع مع ماء الرجل، فيخرج الله -جل وعلا- منه الولد.
وبعض العلماء يقول إنه قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أن المراد صلب الرجل وترائبه، والله تعالى أعلم بذلك.
ولكن كون هذا الولد يخرج من ماء دافق، من ماء مهين حقير، هذا آية على وحدانية الله -جل وعلا-، وآية على كمال تدبيره لخلقه، وآية على حسن صنعته -جل وعلا-، وآية على قدرته -جل وعلا- على بعث خلقه وإنشائهم مرة أخرى.
ثم قال -جل وعلا- إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ أي: أن الله -جل وعلا- قادر على أن يرجع الإنسان بعد ذلك، فالذي خلقه من ماء مهين قادر على أن يعيده حيا بعد موته، وقد تقدم لنا كثيرا استدلال الله -جل وعلا- بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ .
ثم قال -جل وعلا-: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي: أن الله -جل وعلا- يعيد الخلق في يوم تُبْلَى فيه السرائر، بمعنى أن السرائر فيه تُخْتَبر وتمتحن، والسرائر: جمع سريرة؛ وهو ما يخفيه الإنسان، فالله -جل وعلا- يوم القيامة إذا أرجع الأرواح إلى أجسادها وأعاد الأجساد يبتلي -جل وعلا- سرائر عباده؛ لأن العبد قد يعمل أعمالا في الظاهر، ولكن سريرته على خلافها، فإذا كان يوم القيامة انكشفت الحقائق أمام الله -جل وعلا-، فمن زعم أنه يعمل لله -جل وعلا- وهو يعمل لغيره فإن الخلق قد يصدقونه في الدنيا، فإذا جاء يوم القيامة وكشف الله -جل وعلا- السرائر وظهرت له أعماله، تبين أن عمله الذي كان يعمله في الدنيا هباءً منثورا.
ثم قال -جل وعلا-: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ أي: أنه إذا ابتلَى الله -جل وعلا- السرائر، وأعاد الأجساد، فإن العبد في ذلك الموقف ليس بقوي يدفع عن نفسه عذاب الله -جل وعلا-، وليس له ناصر يُعِينُه على دفع ما يلقاه من العذاب؛ لأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فلا أحد يملك أن يدفع عن نفسه شيئا، ولا أن أحد يستطيع أن ينصر غيره، كما قال تعالى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ .
ثم قال -جل وعلا-: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ يعني: والسماء ذات المطر، وسُمِّي المطر رجعا لأنه يتكرر ويرجع مرة بعد أخرى.
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ أي: الأرض ذات النبات، وسُمِّي النبات صدعا في هذه الآية لأنه إذا أراد الخروج من الأرض انصدعت الأرض، بمعنى انشقت، فهذا قَسَمٌ من الله -جل وعلا- بمخلوقين من مخلوقاته وآيتين من آياته، وهذا القسم على كتابه الكريم.
قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي: أن هذا القرآن قولٌ فصل يفصل بين الحق والباطل، ويميز الحق من الباطل، وهذا يدل على أن القرآن حق في نفسه، وأنه صدق، وأنه عدل؛ لأن الذي يفصل بين الحق والباطل لا بد أن تكون له هذه الأوصاف.
ثم إن هذا القرآن من كونه فصلا، أنه جِد ليس فيه إلا الحق، ليس فيه كذب، وليس فيه تخييل، وليس فيه قصص كاذب؛ وإنما هو كله حق وجد.
ولهذا قال تعالى: وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ يعني: هذا القرآن جد وفصل ليس بالهزل؛ لأن الهزل ما هو إلا باطل وكذب وعبث، والقرآن منزه على ذلك، وهذا فيه رد على الكفار الذين قالوا: إن القرآن شعر، وإن القرآن سحر، وإن القرآن كهانة، رَدَّ الله -جل وعلا- عليهم بذلك، وقال إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ .
ثم قال -جل وعلا-: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا أي: أن الكفار يكيدون كيدا لأولياء الله المؤمنين، ويخادعون ويمكرون بهم، بل إنهم -في زعمهم وظنهم- يريدون أن يخادعوا الله -جل وعلا- ويمكرون به، كما قال تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ .
ثم قال -جل وعلا-: وَأَكِيدُ كَيْدًا أي: أولئك الكفار يكيدون، والله -جل وعلا- يكيد، وكيده -جل وعلا- لهم أنه -جل وعلا- يُمْلِي لهم ويستدرجهم ثم يأخذهم -جل وعلا- على حين غرة.
قال الله -جل وعلا- في وصف كيده: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ وهذا فيه إثبات للكيد لله -جل وعلا-؛ فالله -جل وعلا- من صفاته أن يكيد لمن يستحق الكيد، ونُنَبِّه هاهنا إلى أن بعض العلماء أو بعض المفسرين في مثل هذه الآية يقول: هذا من باب المشاكلة، أو باب المقابلة، أو باب المجازاة. وهذا إن أريد به إثبات الصفة لله أولا، وإثبات حقيقتها، ثم بعد ذلك أريد بهذه المشاكلة، أو بهذه المقابلة، أو بهذه المجازاة أن الله -جل وعلا- يجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا- فهذا معنى لا بأس به.
وأما إن أريد به المشاكلة أو المقابلة أو بالمجازاة ما يستخدمه الأشاعرة وغيرهم من أنهم يريدون بذلك نفي الصفة عن الله -جل وعلا-، وأنها صفة وأن هذا مجاز في حق الله جيء به مقابل الصفة التي يتصف بها العبد، فالصفة في العبد حقيقية، ولله -جل وعلا- مجاز، فذلك أمر باطل ترده نصوص الشريعة التي دَلَّتْ على أنه يُثْبَت لله -جل وعلا- ما أثبته لنفسه، ويُنْفَى عن الله ما نفاه -جل وعلا- عن نفسه، وكذلك يُثْبَت له ما أثبته له رسوله، ويُنْفَى عن ما نفاه عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي -إن شاء الله- مزيد إيضاح لها في آخر محاضرة بإذن الله عند آيات الصفات.
ثم قال -جل وعلا-: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا يأمر الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعطي الكافرين مهلة، لكن هذه المهلة قال الله -جل وعلا-: رُوَيْدًا يعني: قليلا، ولهذا بعد ذلك نزلت آيات السيف، وأُمِرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقتال.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
فكان في الأول الله -جل وعلا- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن ينتظر، ثم بعد ذلك أمره الله -جل وعلا- أن يقاتل من كفر ولم يسلم منهم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.